كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لسان جمع هذا القسم وخاتمته:
لمّا كانت الفاتحة منقسمة بالتقسيم الإلهي ثلاثة أقسام، وقد انتهى ما يسّر اللّه ذكره في القسم الأوّل منها، وكان الوعد الإلهي قد سبق أن يكون خاتمة الكلام على كلّ آية قسما بلسان مقام الجمع والمطلع، حان لنا أن نقبض عنان العبارة عن الخوض في هذا النمط بلسان البسط، ونشرع فيما سبق الوعد بذكره، فنقول باللسان الجمعي، ونبدأ ب {بسم الله الرحمن الرحيم}:
اعلم، أنّ التسمية من كلّ مسمّ لكلّ مسمّى تنبيه عليه لمن هو مجهول عنده، أو تذكير به إن كان ممّا قد علم المذكّر له ثم نسيه، أو إظهار له من حيث صفة خاصّة أو حالة أو مرتبة أو زمان أو موطن أو المجموع.
وتسمية الشيء نفسه مع علمه بها تنبيه للغير، أو ترهيب منه من حيث إنّه بمثابة أن يخشى ويحذر، أو ترغيب للمنبّه فيما عند ذي الاسم من الأمور التي يتعذّر نيلها أو معرفتها ابتداء دون ذلك التنبيه أو ما يقول مقامه من المنبّهة.
فمتى نبّه الشخص شعّر، فرغب وسعى وطلب ليغنم، أو اتّقى وحذر ليسلم، سواء كان ذلك مقيّدا بوقت أو حال أو غيرهما من الشروط، أو لم يكن، فافهم.
وأمّا اسم اللّه فإنّه وإن تقدّم القول فيه بما شاء الحقّ ذكره فلابد من تتمّة يستدعيها هذا اللسان الجمعي، فنقول: الاشتقاق المنسوب إلى هذا الاسم راجع إلى المعنى المتشخّص منه في أذهان المتصوّرين، لا إلى حقيقته لأنّ أحد شروط الاشتقاق أن يكون المعنى المشتقّ منه سابقا على المشتقّ وهذا لا يصحّ في حقّ شيء من الحقائق فإنّ للحقائق- وخصوصا لهذا الاسم- التقدمة على سائر المفهوم والمفهومات المتصوّرة، وقد كان ثابتا لمسمّاه قبل وجود التصوّر والمتصوّرين لمعنى الألوهيّة مطلقا ومقيّدا، فكيف يصحّ فيه الاشتقاق المعلوم؟! وأمّا اختصاصه بهذه الحروف دون غيرها فذلك لسرّ يعرفه من يعرف أسرار الحروف، ومراتب روحانيّتها، فيعلم سعة دائرة حروف هذا الاسم، وحكم بسائطها وعظم أفلاكها، ومناسبتها لما وضعت بإزائه، وأنّ هذا اللفظ أتمّ تأدية للمعنى الذي وضع له، وأقرب مطابقة من غيره من الأسماء اللفظيّة المركّبة من غير هذه الحروف عند من أدرك مدلول هذا الاسم وتصوّره في أنهى مراتب الإدراك وأعلى مراتب التصوّر.
واعلم، أنّ الأتمّ شهودا وعلما بكلّ منادى ومدعوّ ومذكور ومسمّى هو أصحّ الموجودات تصوّرا له، والأصحّ تصوّرا أصحّ استحضارا، والأصحّ استحضارا- بعد صحّة التصوّر- أتمّ احتظاء بإجابة المدعوّ والمنادى عند ذكره أو التوجّه إليه أو الطلب له أو منه.
وأمّا ما غاب من حروف هذا الاسم في مرتبتي التلفّظ والكتابة فإشارة إلى ما بطن من المسمّى به وما لا يقبل التعيّن منه في عالم الشهادة والغيب المقابل له، فافهم.
وأمّا الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فهو في ذوق هذا المقام المتكلّم فيه اسم مركّب، فلا يخلو كلّ منهما عمّا تضمّنه الآخر، فبعموم الحكم الرحماني- الذي هو الوجود- ظهر التخصيص العلمي، ثم الإرادي المنسوب إلى الرحيم، فبه تعيّنت الحصص الغيبيّة صورا وجوديّة، كما أنّه بالرحيم ظهر الوجود الواحد متعدّدا بالموجودات العينيّة.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} تعريف بأطلق مراتب الثناء وأوسعه، وبأوّل تعيّنات مطلق الاسم اللّه بحسب الاسم الربّ، وبأوسع أفلاك الاسم الربّ المحيط بالعالمين والدائر عليهم بسرّ التربية، والسيادة، والملك، والثبات، والإصلاح، وبإظهار سرّ ارتباط العالم بالربّ من كونه عالما.
وأمّا سرّ الحمد فمن أغرب أحكامه التي لم يتقدّم ذكرها هو حمد الحقّ الحمد والموجودات أيضا بنفس شهادته سبحانه للثناء فإنّ علم الحقّ بأنّ الثناء ثناء هو المقتضي للشهادة إذ لا شهادة في الحقيقة إلّا بعد العلم، ولا: أمر يثبت، ولا حكم ينفذ لغير الحقّ إلّا بعد شهادة الحقّ بأنّه مستحقّ لما شهد له به وأضيف إليه، ولمّا أضاف الحقّ الحمد لنفسه بحكم كمالي، ثبت له ذلك وتعيّنت مكانته.
وأمّا حمد الحقّ الكائنات فهو بذواتها- أي بما يقتضيه كلّ شيء لذاته من الأمور المحمودة- فيظهر أعيانها ويعرّف البعض للبعض، حتى يعمّ التعريف والإشهاد، فيشمل الحمد- الذي هو الثناء- كلّ شيء من الحقّ بكلّ شيء، فمجموع العالم محمود بجملة ما يشتمل عليه من الصفات والأحوال المرضيّة بألسن شتّى وغير المرضيّة بلسان الإرادة والجمال المطلق والتوحيد الفعلي والذاتي والحكمة الباطنة، من حيث إنّه ما من شيء إلّا وهو شرط في ظهور كمال القدرة وغيرها من الصفات، وإنّ كمال مرتبة العلم والوجود المتوقّفين على ظهور التفصيل الكوني متوقّف على كلّ فرد فرد من أفراد الموجودات، فكلّ ما توقّف عليه حصول المقصود، فهو مطلوب ومشكور من حيث إنّه به ظهر ما أريد ظهوره، فافهم واقنع فهذا اللسان لا يحتمل الإطناب.
ويحمد الحقّ الخلق بالحمد أيضا، وذلك بإظهاره عين الحمد حيث شاء من العوالم، وجعله صفة من أراد من أهل ذلك العالم، فيظهر حكم الحمد بالحقّ فيمن قام به وصار صفة له، فإنّ المعاني توجب أحكامها لمن قامت به.
وأمّا حمد الحمد الحقّ أو نفسه أو الكون فهو بظهور حكمه وقيامه بالمحمود أو فيه وقد مرّ حديثه من قبل.
قوله: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ليس تكرّرا لما في البسملة، بل للواحد تخصيص حكم التعميم، وللآخر تعميم حكم التخصيص. ومتعلّق أحدهما الحكم الدائم بمقتضى حكم معنى الأمر باطنا مطلقا، للآخر الحكم المقدّر المشروط ظاهرا وباطنا.
وسرّ ذلك وتفصيله أنّ الرحمة رحمتان: رحمة ذاتيّة مطلقة امتنانيّة، هي التي وسعت كلّ شيء، ومن حكمها الساري في الذوات رحمة الشيء بنفسه وفيها، تقع من كلّ رحيم بنفسه بالإحسان أو الإساءة بصورة الانتقام والقهر فإنّ كلّ ذلك من المحسن والمنتقم رحمة بنفسه، فافهم. ومن حيث هذه الرحمة وصف الحقّ نفسه بالحبّ وشدّة الشوق إلى لقاء أحبّائه، وهذه المحبّة بهذه الرحمة لا سبب لها ولا موجب، وليست في مقابلة شيء من الصفات والأفعال وغيرهما وإليها أشارت رابعة- رضي اللّه عنها- بقولها:
أحبّك حبّين: حبّ الهوى ** وحبّا لأنّك أهل لذاكا

فأمّا الذي هو حبّ الهوى ** فذكرك في السرّ حتى أراكا

فأمّا الذي أنت أهل له ** فشغلي بذكرك عمّن سواكا

ولا الحمد في ذا ولا ذاك لي ** ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

فحبّ الهوى لمناسبة ذاتيّة غير معلّلة بشيء غير الذات. وأمّا حبّ أنّك أهل لذاكا فسببه المثمر له هو العلم بالأهليّة. ولهذه الرحمة من صور الإحسان كلّ عطاء يقع لا عن سؤال أو حاجة ولا لسابقة حقّ أو استحقاق لوصف ثابت للمعطى له أو حال مرضيّ يكون عليه هذا مطلقا.
ومن تخصيصاته الدرجات والخيرات الحاصلة في الجنّة لقوم بالسرّ المسمّى في الجمهور عناية، لا لعمل عملوه أو خير قدّموه.
ولهذا ثبت كشفا أنّ الجنّات ثلاث: جنّة الأعمال، وجنّة الميراث، وجنّة الاختصاص.
وقد نبّه على جميع ذلك في الكتاب والسنّة، وورد في المعنى: أنّه يبقى في الجنّة مواضع خالية يملأها اللّه بخلق يخلقهم لم يعملوا خيرا قطّ، إمضاء لسابق حكمه وقوله تعالى: «لكلّ واحدة منكما ملؤها».
والرحمة الأخرى هي الرحمة الفائضة عن الرحمة الذاتية، والمنفصلة عنها بالقيود التي من جملتها الكتابة المشار إليها بقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فهي مقيّدة موجبة بشروط من أعمال وأحوال وغيرهما. ومتعلّق طمع إبليس الرحمة الامتنانيّة التي لا تتوقّف على شرط ولا قيد حكمي ولا زماني، فالحكمي قيد القضاء والقدر اللذين أوّل مظاهرهما من الموجودات القلم الأعلى واللوح المحفوظ. والزمانيّ إلى يوم الدين وإلى يوم القيامة، وخالدين فيها ما دامت السماوات والأرض.
فرحمتا البسملة للتعميم والتخصيص، ورحمتا الفاتحة لما ذكرنا من الرحمة الذاتيّة الامتنانيّة والتقييديّة الشرطيّة.
ومن هذا المقام {مالك يوم الدين} فإنّ المجازاة ذاتيّة وغير ذاتيّة، فالوقت لغير الذاتيّة. والذاتيّة لا وقت لها لإطلاقها.
ولمّا كان للحقّ سبحانه الأمران وفي العالم ما يقتضي قبول الحكمين، ذكر اليوم المشتمل على الليل والنهار اللذين هما مظهر الغيب المطلق الممحوّ آيته، والشهادة المبصرة علاماته.
والمجازاة الذاتيّة الواقعة بين الوجود والأعيان باعتبار القبول الأوّل والعطاء الأوّل.
وقد مرّ ذكرهما عن قريب.
والمجازاة الصفاتيّة والفعليّة مثل قوله: {أَنِ اعْبُدُونِي وَاشْكُرُوا لِي} في مقابلة ما أسدى إلى عباده من النعم الظاهرة والباطنة «وأنا عند ظنّ عبدي بي، وسيجزيهم وصفهم».
والدعاء والإجابة ونحو ذلك لمرتبة الأفعال.
وأمّا متعلّق قوله سبحانه بلسان النبوّة عند قول العبد: {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: «مجّدني عبدي» فهو ما يستدعيه مقام العبوديّة العامّة، كنسبة الرعيّة مع الملك بخلاف قوله تعالى في ذلك أيضا:
«فوّض إليّ عبدي» عند قوله تعالى: {مالِكِ} بالألف، فإنّ متعلّقه ما يقتضيه خصوص العبوديّة من حيث الملك بالنسبة إلى المالك من كمال التفويض والاستسلام وصرافة الطاعة والإذعان، فافهم.
وما يتبع الجزاء- كالحال والطاعة والعادة وما سبق ذكره من معاني لفظة: الدّين- فكلّها أحوال العبوديّة والطهارة الحاصلة للعبد المحض، الذي لا يعامل معاملة الأجير تحصل له بأمور، منها ومن آياتها رفع المجازاة الصفاتيّة والفعليّة، ويبقى في مقامه من حكم المجازاة الذاتيّة ما يقتضيه الأمر الذي يمتاز به العبد عن الحقّ من حيث الفروق التي سلفت، لكن بين الكامل وغيره في ذلك تفاوت كثير قد سبق التنبيه عليه أيضا في ذكر مراتب التمييز.
وللحال والطاعة وغيرهما من المعاني المذكورة تمخّضات وامتزاجات بين رتبة العبد وربّه، وزبدة مخيضتها ما سبقت الإشارة إليه في الفصل السابق عند الكلام على مراتب الأعمال ونتائجها، فأمعن التأمّل فيه وفيما يليه وما يذكر في سرّ الشكر في آخر الكتاب، تر الغرائب.
وصل في الظهر والبطن والحدّ والمطلع اعلم، أنّا بيّنّا في غير موضع من هذا الكتاب أنّ العالم من حيث حقيقته مرآة لأحكام الحضرات الخمس، وأنّ صور العالم ظاهرة بحسبها، وما من موجود عيني ولا أمر غيبي إلّا وحكم هذه الحضرات سار فيه، كما نبّهت عليه غير مرّة. وجميع الخواص والأوصاف واللوازم المضافة إلى الكون إنّما تظهر بحكم مقام الجمع الأحدي، الذي تستند إليه الأسماء والصفات والعوالم والحضرات، فإنّها منفعلة ومتفرّعة عنه وتابعة له، وإن كانت في هذا المقام الأنزه الأنوه الذاتي لا تتعدّد، بل يظهر عنها وفيها التعيين والتفصيل بحسب مراتب العالمين وأحوالهم ومدركاتهم وتطوّراتهم.
وإذا تقرّر هذا، فنقول: الكلام الإلهي من أجلّ النسب والصفات الكلّيّة المستوعبة مراتب الإيضاح والإفصاح وقد صدر من حضرة الحقّ ووصل إلينا منصبغا بحكم الحضرات الخمس الأصليّة المذكورة وما اشتملت عليه.
وله- كما أخبر صلّى اللّه عليه وآله- ظهر وهو الجليّ والنصّ المنتهي إلى أقصى مراتب البيان والظهور نظير الصور المحسوسة. وله أيضا بطن خفيّ نظير الأرواح القدسيّة المحجوبة عن أكثر المدارك.
وله حدّ مميّز بين الظاهرة والباطنة به يرتقى من [الظاهر إلى الباطن] وهو البرزخ الجامع بينهما بذاته، والفاصل أيضا بين الباطن والمطلع. ونظيره عالم المثال الجامع بين الغيب المحقّق والشهادة.
وله مطلع وهو ما يفيدك الاستشراف على الحقيقة التي إليها يستند ما ظهر وما بطن وما جمعها وميّز بينهما، فيريك ما وراء ذلك كلّه وهو أوّل منزل من منازل الغيب الذاتي الإلهي، وباب حضرة الأسماء والحقائق المجرّدة الغيبيّة، ومنه يستشرف المكاشف على سرّ الكلام الأحدي الغيبي، فيعلم أنّ الظهور والبطون والحدّ والمطلع منصّات لهذا التجلي الكلامي ولغيره، ومنازل لتعيّنات أحكام الاسم المتكلّم من حيث امتيازه رتبة خامسة تعرف من سرّ النفس الرحماني، وقد مرّ حديثه سيّما من هذا الوجه، فتذكّر.
وقد انتهى القول في القسم الأوّل من أقسام الفاتحة جمعا وتفصيلا، ويسّر اللّه الوفاء بما التزمته، وإنّي وإن بسطت القول فيما مرّ بالنسبة لمن لا يعرف قدر هذا الإيجاز، فإنّما كان ذلك من أجل أنّ تحرير الكلام في القواعد وفي أمّهات المسائل يفتح ما يأتي بعد.
ومن الأمور المتفرّعة على تلك الأمّهات والتفاصيل التابعة لأصولها ولاسيما والسورة المتكلّم فيها أصل أصول الكلم، ومفتاح جوامع الأسرار والحكم، فجدير بمن قصد تفسيرها أن ينبّه على مشارع أنهار أسرارها، ومطلع شموس أنوارها، ومجتمع كنوزها ومفتاح خزائنها وحاصل مخزونها وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. اهـ.